ثلاثة أعوامٍ مرّت على طيّ صفحة تهديد لبنان من الشرق، والبلد مثخنٌ بالجراح من تهديدات الداخل والخارج. هي سنوات صعبة منذ 2011، قدّم فيها ثلّة من اللبنانيين دماءهم ووقتهم وأحلامهم في مواجهة أعتى المقاتلين التكفيريين مدعومين من الولايات المتّحدة الأميركية وأتباعها الغربيين والإقليميين الذين سرعان ما اقتتلوا فيما بينهم، فتعددّت المشاريع والحروب والمصالح والأجندات. لكن، بقيت وجهة المقاومة الوحيدة هي حماية لبنان من شرقه وضرب المشروع التكفيري في مهده، من حمص إلى حلب ودير الزور. ولئن كان لبنان منقسماً كما دائماً، ولا يتّفق أهله لا على عدوٍ ولا على صديق، لم ينتظر المدافعون إجماعاً، بل كانوا حيث يجب أن يكونوا، في اللحظة الحاسمة، حاملين معهم روح الإبداع والإيمان. وبدل أن تكون الظروف تهديداً فحسب، تحوّل التهديد إلى فرصة، ونهلت المقاومة من معرفة الاختبار والميدان، فتغمّست الخبرة بالدّم وأنتجت قوّةً حوّلت المقاومة إلى جيش متكامل من القوّات الخاصّة المدرّبة التي يعصى على أقوى المجتمعات والدول تشكيلها. في مناسبة الذكرى الثالثة لتحرير كامل الجرود الشرقية، أجرت «الأخبار» مقابلة مع ضابط رفيع المستوى في المقاومة، أبو حسن، سرد فيها الأخير سلسلة المعارك التي خاضها حزب الله خلال أربع سنوات، من 2013 إلى 2017، مع تركيز كبير على الجانب العسكري من الأحداث. وتحفل المقابلة بتفاصيل عسكرية مثيرة، تعكس مدى التطوّر الذي وصلت إليه المقاومة على الصعيد البشريّ واللوجستيّ والتقنيّ والتسليحيّ. إلّا أنّ هذه المكتنزات، تصبّ في خلاصة واحدة: تحوّل المقاومة إلى مصدر تهديد عسكري استراتيجي لجيش العدوّ الإسرائيلي، يفوق بأضعاف ذلك التهديد الذي أسقط مقولة «الجيش الذي لا يُقهر» في هزيمتَين عسكريتَين عام 2000 و2006. ويستخلص أبو حسن من روايته الخاصة للمعارك، أن «تشكيلات حزب الله هي تشكيلات دفاعية بالأصل وتنفّذ عمليات خاصة ذات طابع هجومي، لكنّ تجربة سوريا أعطتنا حافزاً لتنفيذ العمل الهجومي بتشكيلات كبيرة وواسعة وأساليب جديدة ودمج أسلحة مع بعضها». فحزب الله، يتألف من مستويات عدّة في التشكيلات (النخب/ النظامي/ التعبئة). «كنّا نهاجم بقوات التعبئة مثلاً»، يقول أبو حسن، «استفدنا من الفرصة، وحوّلنا هذه التشكيلات من شبه عسكريّة إلى هجوميّة، وهذه النخب تتطلّب لدى الجيوش جهوداً كبيرة لإنتاجها. بينما نحن، الطبقة الأدنى لدينا من المقاتلين، هي تشكيلات هجومية قتالية أثبتت فعاليّة في الميدان ضدّ أشرس مقاتلين يمتلكون إرادة الحرب، وبظروف مناخية صعبة من 50 درجة فوق الصفر إلى 20 درجة تحت الصفر، مستفيدين من أسلحة ووسائل لم تكن موجودة بين يدينا في السابق». في المقابل، يبدو جيش العدو الإسرائيلي، وإن كان مدرّعاً بأحدث الأسلحة، حفنة من الجنود، لم يخوضوا اشتباكاً حقيقياً منذ 14 عاماً على الأقل، وجنرالاتهم اليوم هم أبناء هزيمة حرب تموز 2006 ولجنة «فينوغراد» الشهيرة. تحرير السلسلة الشرقية، إعلان فجرٍ جديد للمقاومة، بين عصرين من الحرب: عصر قتال إسرائيل في لبنان وعصر قتال إسرائيل في فلسطين المحتلة.
بعينين مُتَّقدَتَيْن، وصوتٍ عميق، يفرد القائد العسكري الرفيع المستوى في حزب الله، أبو حسن (اسم مستعار)، أمام «الأخبار»، استعادة لبعض جوانب وأسرار المعارك التي خاضتها المقاومة إلى جانب الجيش السوري ولوحدها، ضدّ الجماعات الإرهابية، منذ بدء القتال في حوض نهر العاصي وتل مندو في 2013، وحتى تحرير آخر شبرٍ من سلسلة جبال القلمون والسلسلة الشرقية اللبنانية في آب 2017، بعد مرور ثلاث سنوات على هذا الحدث التأسيسي.
سنوات مريرة ومضنية بالدم والدموع، ودّع فيها الضابط المقاوِم قافلة من الشهداء، من إخوته وزملائه وأساتذته وتلاميذه، كان يُفرِج خلال المقابلة عن أسمائهم شهيداً تلو الآخر، مع كلّ غيمة من حريق سجائره، ومع كلّ مفصلٍ في معركة، تطلّب النصر فيها تقريب الأجساد الفانية.
لكن، كان للجلجلة مقصد، وهو الدفاع عن سوريا ولبنان بكل القوّة والإرادة، بتكتيكات عسكريّة فرضتها ظروف المعارك وغذّتها العقول المشتعلة إبداعاً، والقلوب الفيّاضة بالشجاعة والإيمان. حتى تحوّلت التجربة إلى مستوى جديد ومتقدّم من العلوم العسكرية الهجينة، أكسَبت المقاومة معرفةً ونضجاً، يؤهّلها لخوض أعتى الحروب، كقوّة «خاصة» بأكلمها، ذات تدريب وتسليحٍ عالٍ، يهابها أعداؤها، ويأنس حلفاؤها إلى قدراتها وتفوّقها.
تل مندو البداية
من حمص، يبدأ القائد العسكري روايته، وهو يُؤَشر بيده نحو شاشة على الحائط تعكس خارطة عسكرية. «من اختار حمص لتنطلق الحرب منها ذكيّ جداً»، يدلّ أبو حسن: «هي أكبر المحافظات، وامتداد من شرق سوريا إلى غربها، أي الوسط والقلب، مع قيمة استراتيجية تصل الشمال بدمشق، ومنها مع ريف دمشق يمكن حصار العاصمة وعزلها عن لبنان والساحل السوري. وفي بُعدها الخارجي تلاصق لبنان والأردن والعراق، ومن خلالها يصل الإرهابيّون إلى البحر لاتصالها بالحدود اللبنانية. وفوق ديموغرافيتها الواسعة والمتنوّعة، تضم حمص أبرز المطارات العسكرية الشعيرات/ T4 (التّياس)/ تدمر/ الضبعة، ومخازن السلاح الأساسيّة والاستراتيجيّة للجيش السوري».
أمّا القصير، فهي عقدة العقد لـ«ملاصقتها الحدود اللبنانية ووادي خالد وأكروم، تحوّلت في 2013 إلى قاعدة رئيسية لاستقبال المقاتلين الأجانب، وطبعاً نذكر زيارة أحمد الأسير إليها، لأنّ المطلوب كان تظهير هذا الجانب. كانت القصير مركزاً كبيراً للتدريب وتجميع وتوزيع المقاتلين والسلاح، أي خلفية لوجستية لكلّ العمل العسكري للمعارضة، والأهمّ أنها أُعِدّت لتكون القاعدة الأساسية لمذهبة الحرب في سوريا، وكانت تتزوّد من معابر التهريب المفتوحة من الحدود اللبنانية».
لماذا شعرت المقاومة بالخطر واتّخذت قرار التحرّك؟ يقول الضابط إن «المجموعات المسلّحة التي بدأت بالتشكّل في منطقة حوض العاصي أظهرت تطوّراً لافتاً، ومارست في 2011 و2012 اعتداءات عديدة ضد سكّان الحوض، وبعض هذه القرى تقطنُها غالبية لبنانية أيضاً. ونحن أحدثنا وجوداً دفاعياً صغيراً في قرى مثل الحمّام وصفصافة والحوش لمساعدة أهلها». لكن كانت «السيطرة على تل مندو في آذار 2013 نقطة التحوّل وخطوة مهمة في تطوّر المشروع المعادي. إذ يرتفع التل ذو الحيثية التاريخية حوالى 70 متراً عن محيطه السهلي الشاسع، مع طولٍ مقدّرٍ بـ 450 وعرض حوالى 250 متراً، ما يمنحه إشرافاً على كامل المنطقة المحيطة بـ360 درجة. ويؤمّن مع القصير إشرافاً على الخطوط المفتوحة من البادية إلى الساحل، وعلى مساحات واسعة من حدود لبنان، ويسمّى عسكرياً عارضاً حساساً مفتاحياً للمنطقة». سقوط تل مندو «أضاء مؤشّر الخطر لدى قيادة المقاومة، فتم اتّخاذ القرار بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وكانت قوّات العدو مؤلّفة حينها من فصائل ما سُمي بالجيش السوري الحرّ وكتائب الفاروق مع امتداداتها إلى حماه وحلب والجنوب، وكان على رأس قيادة المدينة المدعوّ موفق الجربان، الملقّب بأبو السوس (انتقل إلى تنظيم داعش لاحقاً)».
عملية تحرير تل مندو، هي «عمل هجومي ذو طبيعة خاصّة قاتلت فيه تشكيلات المشاة، مع تشكيلات قليلة من الدعم الناري، وكان القتال أفراداً مقابل أفراد». الصعوبة في هذه العملية، أن التلّ يتوسّط مسطّحَين من الماء متفرّعَين عن نهر العاصي، ويقدّر أقلّ عرض بـ 24 متراً، ما يشكّل مانعاً لتحرّك أيّ قوة عسكرية باتّجاهه». ومنذ اللحظة التي اتّخدت فيها المقاومة قرار استعادته، «قمنا بمحاولتين، في الأولى غرق شاب واستشهد، أما في الثانية فلم يسقط أي شهيد. العقبة التي واجهناها أن المسلحين فجّروا الجسر الرابط بين التل والبرّ، واستعملنا جسوراً متحرّكة للجيش السوري لكن لم تكن كافية. وهنا دخل الإبداع عبر تصنيع جسور عائمة لتحمل المقاتلين واستخدام آليات صغيرة لنقل الذخائر والأعتدة».
ويتابع أبو حسن أنه «بعد التسلّل والسيطرة على التلّ، استفاد المسلّحون من إمكانيّاتنا المحدودة كتشكيلات صغيرة ومن قرار متخّذ في قيادة المقاومة بالسيطرة على التلّ فقط وعدم التوسّع حوله، فزجّ بحوالى 400 مسلح بهجوم مضاد. لكن هذا الهجوم كانت كلفته عالية عليهم: قُتِل 50 مسلّحاً حاولوا التقدّم بثمانية أنساق هجومية بقيادة أبو أحمد عماد جمعة الذي ألقى الجيش اللبناني القبض عليه لاحقاً وإثر ذلك حصلت معركة عرسال. صحيح أنه سقط لنا 8 شهداء في معركة الدفاع عن التلّ، لكنّ الثمن الذي دفعه المسلّحون كان مرتفعاً مع خسارتهم أبرز قادة العمل الهجومي بالالتحام والقتال المباشر مع مقاتلي المقاومة».
ومع استعادة تل مندو، ردّ المسلّحون بالسيطرة على مطار الضبعة، «ما يعني سيطرتهم على غالبية منطقة شمال وغرب النهر، ومن بحيرة قطينة إلى حمص. وهنا اتُّخذ قرار بعمليّة هجومية للدفاع عن التلّ من خارجه، بتشكيل يوازي 3 سرايا قتال على 3 محاور. وصار الهجوم يتوسّع شيئاً فشيئاً حتى اتُّخذ قرار تحرير كامل منطقة غرب النهر، والاستعداد للانتقال إلى شرقه، وهكذا كان».
من شرق العاصي إلى القصير
الغاية الرئيسية لعمليّة شرق النهر بحسب أبو حسن، كانت «حماية بلدة ربلة، وإيجاد موطئ قدم باتجاه منطقة القصير، عبر تحرير وتحصين قرى جوسيه والزرّاعة والعاطفية والعبودية. والغاية الثانية هي قطع خطوط الإمداد من المعابر التي تصل القصير بعرسال، والتي تمرّ حكماً من منطقة جوسيه وقراها، وبهذه العملية تمتّ السيطرة على 22 قرية بمساحة حوالى 130 كلم مربّعاً، سقطت جميعها بـ48 ساعة من الهجوم».
ويعلّق الضابط على هذه المعركة، شارحاً خلفيتها العسكرية، والتجربة الجديدة التي خاضتها المقاومة، «استفدنا بأقصى شكلٍ مُمكنٍ من مجموعة الأسلحة الجديدة، وعملنا على عدةّ محاور وبعدة أساليب ومناورات، وهذا ما يحتاج إلى الكثير من الضبط والسيطرة والتنسيق. يعني تعدّد أنواع المناورات: مناورة جبهوية/ مناورات اختراقية/ مناورات التفافية/ مناورات إحاطة، كان لدينا قتال بالمشاة، وكذلك بدأنا الاستفادة من وجود المدرّعات. بدأت المعركة مع صلاة الظهر وانتهت عند صلاة المغرب، في أحد أيام نيسان 2013».
تحرير القصير بداية سقوط المشروع
خلال الحديث عن تحرير القصير، يكشف أبو حسن أنّ «قيادة المقاومة كان لديها فكرة عن القيمة الاستراتيجية للقصير، لكن خلال المعارك اكتشف الإخوان حجم هذه القيمة التي تدفع باراك أوباما (الرئيس الأميركي السابق للاتصال بميشال سليمان (الرئيس اللبناني السابق)! وتستنفر كل الشخصيات الأخرى من رجب أردوغان وحمد بن جاسم والقرضاوي إلى وليد جنبلاط».
يجزم القائد أن عملية الهجوم على القصير لم تبدأ قبل أن تأكّد قادة العمليات من خروج المدنيين منها. في بداية المعركة، كان «هناك محظور يمنعنا من الاستفادة من سلاح الطيران، فالسؤال هو هل يوجد مدنيون، أم لا يوجد؟ وهذا النقاش أخذ وقتاً وتأجّلت العملية يومين، وقام الطيران السوري برمي المناشير التي تطلب مغادرة المدنيين، ولم يتم العمل الهجومي إلّا بعد أن أبلغَنا السوريون بأن الناس خرجوا عبر المعابر».
عسكرياً، تبلغ مساحة القصير حوالى 15 كلم مربعاً، وكان في داخلها بضعة مواقع للجيش السوري معزولة أو محاصرة وتتعرّض لهجمات انتحارية يومية، من قِِبل «كتائب الفاروق» وتشكيلات جديدة من «جبهة النصرة» وما سميّ بـ«مغاوير بابا عمرو»، الخارجين من الحي الحمصي بعد استعادة الجيش السوري السيطرة عليه.
يقول القائد الميداني إنه «قاتلنا آلاف المسلّحين في القصير، وعبد الجبار العقيدي (قائد الجيش الحر) قال بعد هزيمتهم إنهم سحبوا 10 آلاف مقاتل، نحن نعتقد أننا قاتلنا 6 آلاف مقاتل في معركة طاحنة. استفدنا أوّلاً من وجود نقاط للجيش فأدخلْنا التشكيلات إليها بصورة سريّة، وعند بدء الهجوم فُتحت محاور اختراقية منها في وسط المدينة، وهاجمنا نحن من 8 محاور بهجوم رئيسي من الجنوب باتجاه الشمال، مستخدمين المناورات الالتفافية، والإ¥حاطة لتأمين المحيط. ومع بدء المعركة سيطرنا في اليوم الأول على 45% من المدينة مع كلفة بشريّة عالية علينا. هذه كانت المرّة الأولى التي تستخدم فيها المقاومة هذا النوع من القتال في المدن».
ويختصر القائد العسكري مراحل العمل في المدينة بأربع: مرحلة الهجوم الواسع (السيطرة على حوالى 45 %)، السيطرة على «خطّ السكّة»، مرحلة القضم حيث كان يتمّ القيام بعمليات قضم لمبانٍ أو بيوت بدل الهجومات الواسعة بـ«عمليات معقّدة جداً لمهاجمة كلّ مبنى على حدة، وخلالها تكون التحضيرات مستمرّة لعمليات هجومية واسعة». أمّا المرحلة الرابعة فهي «العمليّة الهجومية النهائية للسيطرة على هدف واحد وهو القصر البلدي في المدينة، الذي سقط بمجرد سيطرتنا عليه. وهذا الأمر حاولنا فعله في اليوم الأول من الهجوم بعملية اختراق معقّدة أيضاً وكانت واحدة من المناورات الناجحة نسبياً. نجحنا في الوصول إلى قرب المبنى لكن لم نستطع التثبيت، إلى أن أنجزنا ذلك في الهجوم الأخير».
ويلفت أبو حسن الانتباه إلى شراسة المعارك في القصير، «فنحن لم ندخل إلى بيت إلّا وخضنا فيه اشتباكاً، حيث دخلنا إلى ميدان يعجّ بالمقاتلين على امتداد حافة طولها حوالى 4 كلم وبخط متعرّج حوالى 6 كلم. وخلال المعارك أُدخل مسلّحون من أسود الشرقية، والقائد العسكري في المعارضة عبد القادر صالح (حجي مارع) والعقيدي (العقيد المنشقّ عن الجيش السوري) و 300 مسلّح من حلب».
وتلك التعقيدات في القتال، دفعت باتّجاه الإبداعات العسكرية في معركة القصير، «مثلاً أحضرنا شاحنات كبيرة وملأناها بالرّمال وقطعنا بها الطريق، فعرض خط السكة حوالى الـ 60 متراً، ومقاتلو المقاومة مضطرون إلى قطعه مشياً تحت نيران القنص. وفّرنا دماء كثيرة بهذه الطريقة، ونجحت العملية حتى خرج المسلحون ليلة سقوط المدينة تحت أعيننا بحوالى 600 آلية، وطبعاً لم نتعرّض لهم مع أنه كان بالإمكان إبادة القوات المنسحبة. حتى إن مجموعة من حوالى 40 مسلّحاً جريحاً، طلبت من مختار إحدى القرى أن يتمّ إسعافها، وعندما وصل الأمر إلى سماحة السيّد حسن نصر الله أمر بمساعدتهم، وقمنا بنقلهم وتسليمهم إلى الصليب الأحمر الدولي الذي أدخلهم لبنان وعالجهم. طبعاً كانوا يشتمون حزب الله فوق ذلك. لكن على إثر سقوط القصير سقطت كل المنطقة من حوض العاصي إلى مدينة حمص، وغالبيتها من دون قتال».
التهديد من السلسلة الشرقية
مع انتهاء معركة القصير، انتقل التركيز إلى قرى وبلدات سلسلة جبال القلمون، أي يبرود وفليطة وقارة والسحل وعسال الورد والجبة وراس المعرة. بحسب القائد، «تمركز مسلّحو السلسلة الشرقية على معابر الجبال، في سلسلة تمتدّ من جوسيه شمالاً حتى جبل الشيخ جنوباً، يقطعها وادي طريق الشام. وكذلك الأمر تمركزوا في الزبداني واستفادوا من المعابر الطبيعية إلى أقصى حدود».
أمّا على مستوى قيادة المقاومة، فقرار التوغّل في السلسلة الشرقية والسيطرة على بعض المرتفعات الحساسة فيها، اتُّخذ بعد هجوم متقطّع استمر 28 يوماً خلال كانون الأول 2013، ضدّ مواقع المقاومة في جوسيه، و«تم حسم المعركة لصالحنا ليلة رأس السنة 2014، وبدأنا التخطيط والعمل باتّجاه المرتفعات، وعندها سيطرنا على بعض التلال على ارتفاعات بين 1470 و1500 متر، وتمركزنا فيها وأحبطنا الهجوم نهائياً، بظروف مناخية قاسية جداً في ذلك الوقت من العام فوق السلسلة الشرقية». ولم تكن السلسلة وقتها سوى معبر للمسلحين، يُستفاد منه عسكرياً في تهديد مواقع المقاومة والجيش السوري، وأمنياً بزعزعة لبنان عبر السيارات المفخّخة التي بدأت تخرج من يبرود وعرسال عبر إصبع الطفيل، نحو بريتال والداخل اللبناني».
الهجوم على القصير لم يبدأ قبل أن تأكّد قادة العمليات من خروج المدنيين منها
وتطوّر الأمر أيضاً، حين قام المسلحون في كانون الثاني 2014، بالهجوم على مخزن قارة الاستراتيجي، وأثناءها «كنا نجري مناورة قتالة لجميع التشكيلات في القصير، فطُلب منا حماية المخزن، وأدركنا أنه لا بدّ من السيطرة على المرتفعات، وهكذا انفتحنا على العمل باتجاه البادية أيضاً».
ومع تزايد المخاطر العسكرية، كان العدو يتطوّر، فـ«لم نعد نواجه كتائب الفاروق أو الحرّ، بل بتنا نواجه جبهة النصرة بقيادة أبو مالك التلّي، لأن صدمة القصير دفعت بالمشّغلين إلى الاعتماد على تشكيلات تكفيرية أكثر تطوّراً، وهذا أيضاً توسّع نحو الجنوب السوري وفي الشمال باتجاه حماه، حيث شنّ أبو محمد الجولاني هجوماً ضد المطار، وقام الجيش السوري بصدّه واستعادة المناطق القريبة».
دمج تشكيلات بين المقاومة والجيش السوري
في مرحلة تحرير قارة، يهتمّ أبو حسن، بالإشارة إلى أن «كلفة الهجوم كانت شهيداً واحداً من المقاومة بانفجار قذيفة معادية، لكن الأبرز هو أن «هذه العملية الهجومية شهدت دمجاً للتشكيلات بين المقاومة والجيش السوري». كذلك قام المسلّحون بطلب الدعم، فوصلت قوات من المهزومين في القصير، وكان لاستخدامنا أجهزة الاتصال المفتوحة إيجابية كبيرة، حيث تعرّف هؤلاء إلى نداءاتنا فتراجعت الروح المعنوية لديهم، وكثير منهم لم يلتحق في القتال، وهذه تداعيات غير مباشرة لهزيمة القصير، كما أن الجيش السوري تمكّن سريعاً بعدها من استعادة تل كلخ ثم منطقة قلعة الحصن، وكذلك القريتين في البادية».
ومنذ ذلك الحين، تمّ خوض معارك بلدات القلمون، «بتشكيلات هجينة من الجيش السوري والمقاومة في تجربة جديدة، وكانت غاية العمليات اقتلاع جذور الإرهاب وتفكيك معامل الموت والسيارات المفخخة التي استهدفت العمق اللبناني». وفي ذلك الوقت أيضاً، «بدأنا نشهد تهديداً عسكرياً باتّجاه الداخل اللبناني بعد التهديد الأمني، انطلاقاً من السلسلة». وتوّج هذا التهديد بالهجوم على مراكز الجيش في عرسال، في آب 2014، و«نحن نعتقد أنه لولا تنفيذ هذه العمليات الخاطفة لكان المسلّحون توسّعوا في تهديد بعلبك وزحلة والمصنع، وتالياً يتهدّد لبنان بأكمله، لأن هذا كان جزءاً من مشروعهم أصلاً».
قائد عسكري في المقاومة: هزمنا ستة آلاف مسلّح مدرّب في القصير خلال أقل من شهر
في خلاصة الجزء الأوّل من الرواية، يرسم أبو حسن إطاراً لتطوّر العمل العسكري وأساليبه لدى المقاومة، «في تل مندو قاتلنا في طبيعة مع موانع مائية ضخمة ومنطقة سهلية مكشوفة، وتعلّمنا وطورنا قدراتنا ومهاراتنا، وفي معركة شرق النهر وغربه، قاتلنا في بيئة من الأشجار المثمرة الكثيفة والأحراش، وفي مدينة القصير قاتلنا في بيئة عمرانية متراصّة، ثم انتقلنا ظغلى القتال الجبلي المعقّد تحت ظروف مناخية وجغرافية صعبة. وفي كل هذه المراحل هجّنت المقاومة عملها وطوّرته، مستفيدة من المزج بين قتال العصابات ووسائل وأدوات الجيوش النظامية».
البحر هو الحلم الدائم
على مراحل زمنيّة متعدّدة، لم يغِب حلم الوصول من البحر إلى الداخل السوري عبر شمال لبنان، عن تفكير العصابات المسلّحة، باختلاف أشكالها، من «الجيش الحر» و«الفاروق» إلى «النصرة» و«داعش». وهذا الحلم، هو واحد من أبرز أسباب سعي المسلحين إلى الوصول إلى العمق اللبناني. «المسلحون وعدونا بقتالنا في الضاحية، لكن الطموح الاستراتيجي هو الوصول إلى الضنية من البقاع، ثمّ إلى طرابلس»، يقول القائد العسكري في المقاومة. ويؤكّد أن «لدينا وثائق وهي موجودة عند القوى الأمنية، أن مشروع داعش هو فصل قضاء الهرمل والوصول إلى الضنية ليكون له وصول إلى البحر». وهذه المعلومات أكدها قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، في غير مناسبة، إضافة إلى وزير الخارجية البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، الذي صرّح بذلك علناً في آب 2014.
محاولة تفجير «الكلور» في العاطفية
أثناء حديثه عن معركة شرق النهر، يستذكر القائد العسكري في المقاومة، حادثةً مهمّة، وهي أن أول عمليّة قام بها حزب الله بتشكيلات صافية في سوريا، كانت استعادة الموقع 14 التابع للجيش السوري قرب معبر جوسيه، وسقط شهيد للمقاومة.
وكان أول احتكاك لقوّات المقاومة مع القصير في بلدة العاطفية، حيث اتُّخذ قرار استعادة منشأة المياه. ودافعت العصابات المسلّحة عن المنشأة لأكثر من 24 ساعة، قبل أن تسقط ظهر اليوم التالي على بدء الهجوم. لكن الحادث الأبرز في هذه العمليّة، هو قتل رجال المقاومة لأحد المسلّحين المكلّفين تنفيذ عمليّة انتحارية داخل المنشأة، بهدف تفجير مستوعبات تضمّ آلاف الليترات من مادة الكلور، لكنّه قُتل قبل القيام بتنفيذ مهمّته.